التوكل- باب الى خزائن الرحمة الالهية
التوكل- باب الى خزائن الرحمة الالهية
وَكَلَ أمره الى الله ، اعتمد عليه فيه ، وهو واثق بربه في إنجازه له ، وفوضه إليه مكتفياً بحسن ظنه به .
ولما كان العبد المؤمن يوكل أمر ما يهمه إليه سبحانه ، لأن من شأن رحمته ولطفه ، حفظ ما وكله عبده فيه ، وقيامه عليه ، يكون الوكيل هنا بمعنى الحفيظ ، يرعى عبده ويُعنى بشأنه .
وبلحاظ أنه تعالى وكيل موثوق بصدقه ، يركن إليه قلب عبده المؤمن ، ويستبطن استنصاره به على تسهيل ما أهمه ، كان الوكيل بهذا اللحاظ بمعنى الناصر .
وقد ورد ذكر التوكل على الله والمتوكلين ، في آيات كثيرة في كتاب الله المجيد ، دعى الله سبحانه فيها المؤمنين الى التمسك به واتخاذه وسيلة موثوقة لإنجاح مطالبهم وإنجازها ، وتذليل الصعاب التي تعترضهم في شؤونهم وإزالتها .
وقد كان التوكل على الله تعالى شأنه ، ديدن رسله وأنبيائه وأتباعهم عبر التاريخ .
قال تعالى حكاية عن هؤلاء الأنبياء في جال دعوتهم أقوامهم الى الله والإيمان برسالته ، وتكذيب المرسل اليهم :
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 11، 12].
وعن شعيب (عليه السلام) مع قومه :
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [الأعراف: 89].
وفي موسى (عليه السلام) : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84، 85].
وفي ابراهيم (عليه السلام) : {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة: 4].
وفي يعقوب (عليه السلام) :
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف: 67].
وفي محمد (صلى الله عليه واله) :
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].
حسبي الله : أي يكفيني الله .
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
بين التوكل والتواكل
ولابد من التنبيه على أمر قد يغفل عنه الكثير ، وهو وجود فرق كبير بين التوكل على الله في الأمور كلها من قبل العبد المؤمن ، وبين تواكل الإنسان في أموره .
فالتوكل المذكور مطلب راجح في حد ذاته ومرغوب فيه ، فالمؤمن يتوكل على الله انطلاقاً من عقيدته الإيمانية القائمة على أساس يقينه الراسخ ، بأن زمام الأمور في هذا الكون وإبرامها ونقضها إنما هي بيد خالق هذا الكون ، فهو الفاعل ما منه الوجود ، ولكن على الإنسان نفسه أن يسعى من أجل تهيئة أسباب ومقدمات أي أمر يعزم عليه باعتباره مزوداً بخاصتي الإرادة والاختيار ، وباعتباره أيضاً فاعلاً ما به الوجود ، لا أن يهمل القيام بتلك المقدمات والأسباب ويجلس في بيته متوكلاً على الله فيه ، لأنه سبحانه إنما ربط المسببات في هذا الكون بأسبابها ، التي تكون مباشرتها من مهمات العبد نفسه .
فإذا كان هم العبد الرزق ، عليه ان يهيئ أدواته وأسبابه الموصلة إليه ، فلا يكفي أن يجلس في بيته بلا حراك وينتظر أن ينزل الله عليه الرزق بحجة التوكل عليه ، بل إذا اشترى فأساً مثلاً وخرج الى البرية ليحتطب ، ثم يبيع الحطب الذي جمعه متوكلاً على الله في ذلك ومستعيناً به على الرزق ، وإتمام أمره وإنجاح سعيه ، ففي هذه الصورة يصدق التوكل ، وفي الصورة الأولى هو متواكل وليس متوكلاً .
وإلى هذه الحقيقة ، تشير الآيات الكريمة في القرآن الكريم ، حيث تحكي عن الأنبياء – وهم قادة البشرية – أنهم كانوا من المتوكلين على ربهم باستمرار ، ولكن كانوا يلجأون إليه سبحانه بعد أن يستفرغوا وسعهم ويستنفذوا جهدهم في القيام بأعباء ما حمّلوا من رسالة الله الى الخلق ، وعندما يصر أقوامهم على الكفر والجحود ، كانوا يرجعون الأمر إليه ليحكم فيه .
ومن الآيات التي تنص على ضرورة التوكل ونبذ التواكل قوله تعالى :
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23].
والابتغاء : السعي والطلب ، وفضل الله : هو الرزق وغيره من النعم . أي منامكم بالليل وطلب رزقه في النهار بالسعي نحوه .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] .
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } [العنكبوت: 17] .
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } [الملك: 15] .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
بل نيل الجنة التي وعد المتقون ، شأنه شأن الرزق في وجوب السعي لها ، واحتياجها الى تهيئة المقدمات من قبل المؤمن ، بالعمل بالطاعات في الدنيا والانتهاء عن ارتكاب المعاصي مما يقصيه عن رحمة الله ولطفه ، فكما لا رزق بلا سعي ، فلا جنة بلا عمل ، قال تعالى :
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
وقال سبحانه على لسان أهل الجنة :
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 61].
والمقصود بـ (هذا) نعم الجنة .
ليست هناك تعليقات